إن من أهم السمات الرئيسية التي تميز بين العلماء العاملين والعلماء المدعين، هي الجراءة في الحق والثبات عليه والصدع به مهما كانت العواقب؛ فالعلماء الربانيون العاملون لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يؤثرون مرضات أحد سوى الله عز وجل، ولا يبالون بقوة سلطان ولا بجبروت نفوذ ولا بإغراء مال ومنصب، بل شعارهم في الحياة قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}.
فلله در العلماء الصادعين بالحق المؤثرين لمرضات الله وحده عز وجل، أما العلماء المدعين فترى الواحد منهم مطية للسلطان خادمًا لأهوائه مبررًا لأفعاله، لا يقدر على الكلمة الواحدة في الحق لمن له عليه أدنى نعمة مخافة زوالها، فعلماء السوء يؤثرون السلامة ويضعون عند الحق على أفواههم كمامة، أقصى أمانيهم العطايا والأموال ورضا السلطان.
وبين أيدينا موقف من المواقف البيضاء الناصعة في قوة العالم وصدعه بالحق وثباته وقوة جنانه، وأثر ذلك في أقوى سلاطين الأرض وقتها.
يعتبر العلامة محمد بن محمد بن حمزة الفناريَّ من أشهر وأمهر علماء الدولة العثمانية في الصدر الأول من حياتها، ولقد ولد هذا الشيخ الإمام بالأناضول سنة 751هـ، ثم ارتحل إلى مصر لطلب العلم، ولما أنهى رحلته في طلب العلم والحديث عاد إلى بلاده واشتغل بالقضاء والفتيا والدرس والتآليف، وهو مصنف كتاب [فضول البدائع في أصول الشرائع] وهو من أجل الكتب الأصولية وأنفعها، وقد جمع فيه خلاصة كتب المنار والبزدوي والمحصول للرازي ومختصر ابن الحاجب وغير ذلك حتى أنه قد مكث في تصنيفه ثلاثين عامًا.
وبسبب علمه وورعه وحسن قضائه ارتفع قدره عند السلطان بايزيد الصاعقة سلطان الدولة العثمانية، وحل عنده المحل الأعلى، وجعله في منصب القضاء الأعلى للدولة العثمانية، وأغدق عليه الأموال والعطايا والمنح، ومع ذلك كان القاضي متزهدًا في ملبسه ومسكنه ومأكله، لا يبالي بفتوح الدنيا التي تنهال عليه.
ومن تصلب ذلك الإمام في الحق وتثبته في القضاء أنه رد شهادة السلطان بايزيد الصاعقة في قضية معينة، ولنا أن نتخيل ذلك الموقف العجيب، أقوى سلاطين المعمورة وقتها، صاحب الفتوحات الرائعة في أوروبا، وبطل معركة نيكوبوليس، وفاتح بلغاريا، وقاهر الحلف الصليبي المقدس بزعامة البابا بونيفاس التاسع، يتقدم للشهادة فيرده القاضي الفناريّ، على الرغم من العطايا والمناصب التي أعطاه إياها من قبل، فيسأله السلطان بايزيد عن سبب ذلك، فيقول القاضي الفناريّ: «لأنك تارك للجماعة».
فما كان رد سلطان الدولة العثمانية على تلك الإجابة الصارمة؟ والتي كانت كفيلة بإزهاق روح القاضي على أقل تقدير للطغاة في كل عصر؟
جاء رد فعل السلطان بايزيد الصاعقة ملائمًا لطبيعة تلك الشخصية العظيمة والتي فتحت الفتوحات الكبيرة وحققت الإنجازات الرائعة في مجال الجهاد في سبيل الله عز وجل، إذ قام وبمنتهى البساطة ببناء جامع كبير أمام قصره ولم يترك الجماعة بعد ذلك مطلقًا في حل ولا ترحال.
فرحم الله عز وجل الرجلين القاضي الصادع بالحق والسلطان السامع له.
إرسال تعليق